برغم من وجود عشرات المؤلفات حول بطل الملحمة الكربلائية أبي الفضل العباس ( عليه السلام ) ، لكن بعض تلك الكتب لم تشر إلى المرأة التي كانت قرينة هذا الرجل العظيم ،
أو اشارت إليها إشارة موجزة ، فمن هي زوجة العباس ؟ وما هو دورها في معركة العزّة والإباء ؟
تذكر العديد من الروايات بأن العباس تزوج من امرأة واحدة هي (لبابة بنت عبيد الله بن عباس) وكانت من سيدات عصرها وأفضلهن نسبا وطهارة وعفة ؛ فهي تنتمي إلى البيت الهاشمي خيرة الله من العرب ، والذي شرّفه بأن اختار منه خاتم أنبيائه .
كانت لبابة من أجمل النساء ، وكانت تقول : ما نظرت إلى وجهي في المرآة مع أحد إلّا ورحمته من حسن وجهي .
أبوها هو (عبيد الله بن عباس) وكان واليا على اليمن من قبل الإمام علي بن أبي طالب ( عليه السلام )، أما أمها فهي السيدة الجليلة أم حكيم بنت خالد بن قرض الكنانية وكانت من أجمل النساء وأوفرهنّ عقلا ، وقد فُجعت هذه السيدة الفاضلة بمقتل ولديها الصغيرين ( عبد الرحمن وقثم ) من قبل السفاح (بسر بن أرطأ) أحد قادة معاوية بن أبي سفيان عندما احتلّ اليمن حيث لم يتمكن عبيد الله من الصمود أمام الجيش الأموي الأمر الذي دعاه إلى ترك اليمن لكنه لم يتمكن من أخذ طفليه معه لأنه كان قد أرسلهما إلى البادية لينشئا هناك وكان هذا الأمر مألوفا عند أهل الجزيرة العربية ، لما علم بسر بن أرطأ بوجود هذين الطفلين أرسل لهما رجاله وأمر بذبحهما ، ولما وصل خبر مقتلهما إلى أمهما فُجِعت بهما وأخذت ترثيهما بهذه الأبيات :
يا من أحسن بابني الذين هما كالدرّتين تشظّى عنهما الصدفِ
يا من أحسن بابني الذين هما سمعي وقلبي فمخي اليوم مُختَطف
نُبَّئتُ بسراً وما صدّقتُ ما زعموا من قولهم ومن الإفكِ الذي اقترفوا
أنحى على ودجَيْ ابنيَّ مرهفةً مشحونةً وكذاك الإثم يُقترف ُ
ولما بلغ قتلهما أمير المؤمنين ( عليه السلام ) دعا على بسر وقال : ( اللهم اسلبه عقله ودينه ) ؛ فلم تمض مدة طويلة حتى انتقم الله سبحانه وتعالى منه فخرف وسُلب عقله و أخذ يتصرف تصرفات تشمئزُّ منها النفوس حتى أهلكه الله وأورده النار وبئس المصير .
في كربلاء
وقفت السيدة لبابة مع زوجها في كربلاء موقفا شجاعا ونبيلا حيث آزرته وساندته وحثّته على المضي قدماً في الوقوف مع أخيه سيد الشهداء ، وظلّت بجانبه وهو يرفع لواء الثورة الحسينية ، راية الإيمان والعزة والفداء ؛ فسجّل العباس (عليه السلام) أروع مواقف البطولة والوفاء والتي اصبحت قصائد يتغنّى بها الشعراء على مرّ الزمن .
ويذكر بعض المؤرخون إن للعباس ولدا من السيدة لبابة يدعى ( محمد ) كان يحبه حبا شديدا ، وكان بين عينيه أثر السجود ، فلما رأى العباس حال أخيه الحسين ( عليه السلام ) قدّم أخوته بين يديه ، ثم أتى بابنه هذا وقلّده السيف واستأذن له فقبّل محمد يدي عمه ورجليه وودع عماته ، وقاتل حتى قُتِل ويذكرون له بطولات فذّة ، وقد ذكره ابن شهرآشوب من شهداء الطف أيضا ولكن صاحب كتاب (فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيد الشهداء) ينكر وجود محمد هذا ويقول : لا يوجد دليل تاريخي على وجود ابن للعباس استشهد في كربلاء .
ما بعد كربلاء
استمرت هذه المرأة تقارع السلطة وتقاسم السيدة زينب (عليها السلام) المصائب والألم ، وصمدت أمام تعسف أزلام السلطة وقسوتهم ، وشاركت عقيلات الرسالة رحلة السبي المؤلمة من كربلاء إلى الشام وحتى العودة إلى المدينة المنورة ، حيث أكملن بمسيرهن الثورة الحسينية وكما أراد لها الحسين ( عليه السلام ) وخطط لها بحنكة وذكاء ؛ وتمكنَّ بجهادهن وصبرهن وتصدّيهنَّ للطغاة من سكب قطرات السم الزعاف في كؤوس بني أمية ، وقلبنَ نصرهم إلى هزيمة وفضحنَ سياستهم الظالمة .
واختلفت الروايات فيما حصل للسيدة لبابة بعد يوم الطفّ فهناك رواية تقول أنها لم تعش بعد استشهاد العباس ( عليه السلام ) إلّا قليلا ، وتذكر هذه الرواية أنها توفيت سنة 63 هجرية أي بعد استشهاده بسنتين فقط ، وكان عمرها وقت وفاتها خمسة وعشرون سنة لأن محنتها كانت كبيرة ولم تستطع تحمل شدة الصدمة وعمق المصيبة فرحلت عن الحياة صابرة محتسبة ، وذهبت إلى ربها راضية مرضية ، بينما توجد رواية أخرى تقول أنها تزوجت بعد أبي الفضل من زيد بن الحسن بن أمير المؤمنين ( عليه السلام ) ورُزِقت منه بنت أسمها ( نفيسة ) والتي تزوجها الوليد بن عبد الملك .
أبناؤها :
تضاربت الروايات أيضا في هذا الجانب من حياة السيدة لبابة ، ولكن المشهور بين علماء النسب أن للعباس ( عليه السلام ) ولدا واحدا هو ( عبيد الله ) وأمه السيدة لبابة ، كما اتفقوا على انحصار عقب العباس فيه من ولده ( الحسن ) ، وكان عبيد الله من كبار العلماء موصوفا بالجمال والكمال والمروءة ، ربّاه الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وله منزلة كبيرة عنده كرامة لموقف أبيه ، وزوّجه ابنته ، وجمع له معها ثلاث من الحرائر من بنات الأشراف ويقصد بذلك تنمية نسل عمه العباس ، وكان إذا رآه رقّ واستعبر باكيا ، فإذا سُئل قال : إني أذكر موقف أبيه يوم الطّف فما أملك نفسي .
ويرى بعض المؤرّخين إن السيدة ( لبابة ) أنجبت للعباس (ع) خمسة أولاد وبنتاً واحدة ، والأولاد هم : الفضل ، عبيد الله ، الحسن ، القاسم ، محمد ؛ الذي ذكره ابن شهر آشوب كما ذكرنا سابقا ، وذكره بعض المؤرخين تمشيا معه ، بينما تذكر مصادر أخرى أن أولاد السيدة لبابة هما الفضل وعبيد الله .
ومهما تكن الحقيقة فإن أحفاد العباس انحصروا في ابنه عبيد الله وكانوا كلهم أجلّاء لهم المكانة العالية بين الناس لأنهم ما بين فقهاء و محدّثين ونسّابين وأمراء وخطباء وشعراء وفصحاء وأسخياء وزهّاد ولا غرابة في ذلك وقد أنجبهم أبو الفضل العباس مع ما يملكه من مزايا ومواهب نادرة لا يجود بها الزمان كثيرا .
هذا ما وصلنا من سيرة السيدة الجليلة لبابة ، ومع قلّته إلا إنه يلقي الضوء على عظمتها ودورها المميّز في التأريخ ويكفيها فخرا أنها اقترنت ببطل الملحمة الحسينية أبي الفضل العباس (عليه السلام ) وكان من نسلهما الرجال العظماء الذين امتلأت بهم الدنيا علما وخيرا وبركة .
المصادر :
1- ترجمة أعلام النساء / العلامة الشيخ محمد حسين الحائري
2- العباس / السيد عبد الرزاق المقرّم
3- العباس بن علي جهاد وتضحية / سعيد رشيد زميزم
4- العباس بن علي الوفاء الخالد / عبد الأمير عزيز القرشي
5- فرسان الهيجاء في تراجم أصحاب سيد الشهداء / الشيخ ذبيح الله المحلاتي