كلمة سماحة الشيخ (حفظه الله) صبيحة هذا اليوم الأربعاء 23 ذي الحجة 1436 هـ، الموافق 7-10-2015 م للخطباء والمبلغين في استقبال شهر محرم الحرام .
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ﴿..وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام : 59]
وفي هذا الكتاب كل ما يلزم لسعادة الإنسان، وأفضل ما يقوم به أهل العلم في حياتهم مختصر في عبارتين من القرآن الكريم:
الأولى: ﴿ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ﴾
الثانية: ﴿وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ﴾ [التوبة : 122]
التفقه في الدين والإنذار، هذا الأمر يورث الشبه بالأنبياء، فإن مقام النبوة هو مقام الإنذار ﴿يا أيها المدثر * قم فأنذر * وربك فكبر﴾ [المدّثر: 1-3]
ونحن مقبلون على أيام غير قابلة للإدراك.
فواقعة عاشوراء فوق الإدراك وفوق البيان، إنها قضية من القضايا التي لا تدرك ولا توصف.
روايات أم سلمة وشهادة الحسين عليه السلام مما اتفق عليها الفريقان، ومن ذلك رؤياً رأت فيها النبي صلى الله عليه وآله: أشعث أغبر و على كريمته الغبار و التراب.
وهذه الجملة تحير كل من يذكرها من الفقهاء.
تروي فتقول:
فقلت: بابي و امّي مالي أراك يا رسول اللّه مغبرا أشعث ما هذا الغبار و التراب الذي أراه على كريمتك و وجهك؟
فقال لي: يا أمّ سلمة لم أزل هذه الليلة أحفر قبر ولدي الحسين عليه السلام، و قبور أصحابه (مدينة المعاجز ج4 ص193)
قال: مَا زِلْتُ اللَّيْلَةَ أَحْفِرُ قُبُوراً لِلْحُسَيْنِ وَ أَصْحَابِهِ (أمالي المفيد ص319)
عقل الكل وأشرف الكائنات يحفر قبراً للحسين عليه السلام !
ورد في زيارة أصحاب الحسين عليه السلام: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ يَا أَبْرَارَ الله (المزار ص164)
هذه الكلمات محيّرة للعقول !
كان هؤلاء أبرار الله ! وقد قال الإمام عليه السلام فيهم قولاً في ليلة عاشوراء، وهي الليلة التي خطب فيها خطبة لم يخطب مثلها في عمره !
وبعد أن حمد الله وأثنى عليه قال: َ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي لَا أَعْلَمُ أَصْحَاباً أَوْفَى وَ لَا خَيْراً مِنْ أَصْحَابِي، وَ لَا أَهْلَ بَيْتٍ أَبَرَّ وَ لَا أَوْصَلَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي.(الإرشاد ج2 ص91)
وعدم علمه علم بالعدم، ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ﴾ مثله عليه السلام يقول في ذلك الجمع: لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي..
هذا مقام أصحابه.
غلام أسود كان معه وجدت جنازته بعد عشرة أيام، فكان وجهه كفلقة القمر، وقد عطّرت رائحته العطرة كل الجو في نينوى.. (عن الباقر عليه السلام: فوجدوا جونا بعد عشرة أيّام تفوح منه رائحة المسك رضوان اللّه عليه، تسلية المجالس ج2 ص293)
لماذا ؟ لكلمتين قالهما له الإمام عندما جاء ليستجيزه فلم يجزه، ذلك أنه جاء للراحة لا للمحنة..
قال له الغلام الأسود: إِنَّ رِيحِي لَمُنْتِنٌ وَ حَسَبِي لَلَئِيمٌ وَ لَوْنِي لَأَسْوَد.
لقد رفع الإمام عليه السلام رأسين ووضعهما على ركبتيه:
أحدهما: رأس أشبه الناس خلقاً وخلقاً ومنطقاً برسول الله.
ثانيهما: رأس هذا الغلام !
ثم قال جملتين: اللّهمّ بيّض وجهه، وطيّب ريحه.
وفعلت هاتين الكلمتين فعلهما، وبعد عشرة أيام كان هواء نينوى معطراً..
هذه هي الأيام القادمة.. لقد انقضت فترة التفقه في الدين وهذه أيام الإنذار..
اعلموا قدر هذه النعمة.. لا ينبغي أن تحرموا من هذه السعادة.. إنها الأيام التي: بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ الْجَهَالَةِ وَ الْعَمَى وَ الشَّكِّ وَالِارْتِيَاب (كامل الزيارات ص228)
فينبغي عليكم جميعاً، فرداً فرداً، الاقتداء به عليه السلام عملاً.. وهذا مقام غير قابل للإدراك ولا للوصف !
روى الطبرسي في الاحتجاج عن الإمام الحادي عشر عليه السلام: قَالَ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ ع: فَقِيهٌ وَاحِدٌ: ليس أي فقيه.. تفقهوا في هذه الكلمات جيداً.
يُنْقِذُ يَتِيماً مِنْ أَيْتَامِنَا الْمُنْقَطِعِينَ عَنَّا وَ عَنْ مُشَاهَدَتِنَا بِتَعْلِيمِ مَا هُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ: من هم أيتامنا ؟ الجهال الذين انقطعوا عن مشاهدتنا، فإذا أنقذ هذا الفقيه ذلك اليتيم كان ذلك:
أَشَدُّ عَلَى إِبْلِيسَ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ لِأَنَّ الْعَابِدَ هَمُّهُ ذَاتُ نَفْسِهِ فَقَطْ وَ هَذَا هَمُّهُ مَعَ ذَاتِ نَفْسِهِ ذَوَاتُ عِبَادِ اللَّهِ وَ إِمَائِهِ لِيُنْقِذَهُمْ مِنْ يَدِ إِبْلِيسَ وَ مَرَدَتِهِ فَلِذَلِكَ هُوَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ وَ أَلْفِ أَلْفِ عَابِدَة (الإحتجاج ج1ص 17)
لماذا كان أفضل من ألف عابد ؟ لأنه أنقذ يتيمنا.
رواية أخرى عن الإمام الحادي عشر عليه السلام: قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ ع: عُلَمَاءُ شِيعَتِنَا مُرَابِطُونَ فِي الثَّغْرِ الَّذِي يَلِي إِبْلِيسَ وَ عَفَارِيتَهُ يَمْنَعُوهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ عَلَى ضُعَفَاءِ شِيعَتِنَا وَ عَنْ أَنْ يَتَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ وَ شِيعَتُهُ وَالنَّوَاصِبُ.
أَلَا فَمَنِ انْتَصَبَ لِذَلِكَ مِنْ شِيعَتِنَا كَانَ أَفْضَلَ مِمَّنْ جَاهَدَ الرُّومَ وَ التُّرْكَ وَالْخَزَرَ أَلْفَ أَلْفِ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ أَدْيَانِ مُحِبِّينَا وَ ذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْ أَبْدَانِهِم (الإحتجاج ج1ص 17)
من أنقذ يتيماً جاهلاً من أيتام إمام الزمان وعلّمه وظائفه الدينية كان أفضل من كل هؤلاء المجاهدين في سبيل الله.
أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر، لماذا ؟ لقد بيّن الإمام العلة في ذلك، لأن أولئك يدفعون عن الأبدان وهؤلاء عن الأديان.
هنيئاً لمن يستفيد من أيام العطلة في عاشوراء، ويذهب للمناطق المحرومة التي لا يذهب إليها أحد، ويضمن سعادته الأخروية للأبد.
قَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ ع : أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى ع: حَبِّبْنِي إِلَى خَلْقِي، وَحَبِّبْ خَلْقِي إِلَيَّ.
قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَفْعَلُ ؟
قَالَ: ذَكِّرْهُمْ آلَائِي وَ نَعْمَائِي لِيُحِبُّونِي، فَلَئِنْ تَرُدَّ آبِقاً عَنْ بَابِي، أَوْ ضَالًّا عَنْ فِنَائِي، أَفْضَلُ لَكَ مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ بِصِيَامِ نَهَارِهَا وَ قِيَامِ لَيْلِهَا. (تفسير العسكري ص342)
هذه الكلمات محيرة، إن رددت آبقاً لباب الله كان ذلك أفضل من عبادة مئة سنة !!
لا تفوتوا هذه الفرصة وتضيعوها من أيديكم !
ومن كانت هذه أيامه فختم الكلام كلامه: عن الإمام ابي محمد الحسن العسكري عليه السلام قال: قال الحسين عليه السلام:
مَنْ كَفَلَ لَنَا يَتِيماً قَطَعَتْهُ عَنَّا مَحَبَّتُنَا بِاسْتِتَارِنَا فَوَاسَاهُ مِنْ عُلُومِنَا الَّتِي سَقَطَتْ إِلَيْهِ حَتَّى أَرْشَدَهُ وَ هَدَاهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ: أَيُّهَا الْعَبْدُ الْكَرِيمُ الْمُوَاسِي لِأَخِيهِ أَنَا أَوْلَى بِالْكَرَمِ مِنْكَ، اجْعَلُوا لَهُ يَا مَلَائِكَتِي فِي الْجِنَانِ بِعَدَدِ كُلِّ حَرْفٍ عَلَّمَهُ أَلْفَ أَلْف قَصْرٍ وَ ضُمُّوا إِلَيْهَا مَا يَلِيقُ بِهَا مِنْ سَائِرِ النَّعِيم (الإحتجاج ج1ص 16)
هذا كلام سيد الشهداء عليه السلام!
أيام محرم على الأبواب.. لكم بكل حرفٍ تُعَلِّموه شخصاً، من إحكام للعقيدة أو تهذيب للأخلاق أو تعليم للأحكام، لكم بكل حرف من ذلك ألف ألف قصر في الجنة، فلا تضيعوا هذه العطيّة.
ماذا فعل سيد الشهداء ؟ وماذا فعلنا نحن ؟
بَذَلَ مُهْجَتَهُ فِيكَ.. لماذا ؟
لِيَسْتَنْقِذَ عِبَادَكَ مِنَ الضَّلَالَةِ وَ الْجَهَالَةِ..
فينبغي على من كانوا له أتباعاً أن يدرسوا ويتفقهوا في أيام الدرس، وأن يرشدوا أيتام وليّ العصر في أيام العطل..
في كل هذه الروايات ورد التعبير بكفالة اليتيم، ولهذا سرّ.
قال النبي الخاتم (ص): أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة.
كهذين الاصبعين: أحدهما أعلى وأطول والآخر أقصر ولكنهما متصلان، هكذا يكون كافل اليتيم مع النبي في الجنة.
إذا كانت كفالة يتيم زيد وعمرو هكذا، فما حال كفالة يتيم ولي العصر ؟
لا تذهب هذه السعادة من بين أيديكم !
﴿وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ﴾ [مريم : 39]
عندما يبين أمير المؤمنين عليه السلام حال الموت يقول: فَغَيْرُ مَوْصُوفٍ مَا نَزَلَ بِهِم اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِمْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ وَحَسْرَةُ الْفَوْت..(ص160)
فلا ينبغي ان تبتلوا بحسرات الفوت مع سكرات الموت !
أي أيام هي هذه ؟!
أيام من قال عنه النبي (ص) : قُرَّةُ عَيْنِي وَ رَيْحَانَتِي وَ ثَمَرَةُ فُؤَادِي (كامل الزيارات ص67)
من كان قرة عين 124 الف نبي، كانت قرة عينه في الحسين بن علي عليه السلام..
يقول جبرائيل للنبي (ص): إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَم... عَلَى هَذَا الْحُسَيْنِ أَنْ يَمُوتَ مَذْبُوحاً..
يذبح عليه السلام ذبحاً قال عنه الامام الثامن لابن شبيب: يَا ابْنَ شَبِيبٍ إِنْ كُنْتَ بَاكِياً لِشَيْءٍ فَابْكِ لِلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ع فَإِنَّهُ ذُبِحَ كَمَا يُذْبَحُ الْكَبْش (أمالي الصدوق ص130)
ثم قال جبرائيل للنبي (ص) : إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَم... عَلَى هَذَا الْحُسَيْنِ أَنْ يَمُوتَ مَذْبُوحاً وَ إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً فَإِنْ شِئْتَ كَانَتْ دَعْوَتُكَ لِوَلَدَيْكَ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يُسَلِّمَهُمَا مِنَ السَّمِّ وَ الْقَتْل..
فَقَالَ النَّبِيُّ (ص): يَا جَبْرَئِيلُ أَنَا رَاضٍ بِحُكْمِ رَبِّي لَا أُرِيدُ إِلَّا مَا يُرِيدُهُ.
قال هذا جده.. لكن ما الذي جرى عليه يوم عاشوراء ؟!
إنه غير قابل للقول..
قوم بالسيوف وقوم بالرماح وقوم بالحجارة !
كم يتحمل البدن ؟
وَ لَوْ تَرَاهُ يَا آدَمُ وَ هُوَ يَقُولُ وَا عَطَشَاهْ وَا قِلَّةَ نَاصِرَاهْ حَتَّى يَحُولَ الْعَطَشُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ السَّمَاءِ كَالدُّخَانِ فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ إِلَّا بِالسُّيُوفِ وَ شُرْبِ الْحُتُوف..
كان هذا قوله: إلهي.. رضا بقضائك وتسليماً لأمرك.. لا معبود سواك يا غياث المستغيثين.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم